سورة مريم - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (مريم)


        


قفّى سبحانه قصة إبراهيم بقصة موسى لأنه تلاه في الشرف. وقدّمه على إسماعيل لئلا يفصل بينه وبين ذكر يعقوب، أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} قرأ أهل الكوفة بفتح اللام، أي جعلناه مختاراً وأخلصناه، وقرأ الباقون بكسرها، أي أخلص العبادة والتوحيد لله غير مراء للعباد {إِنَّهُ كَانَ رَسُولاً نبياً} أي أرسله الله إلى عباده فأنبأهم عن الله بشرائعه التي شرعها لهم، فهذا وجه ذكر النبيّ بعد الرسول مع استلزام الرسالة للنبوّة، فكأنه أراد بالرسول معناه اللغوي لا الشرعي، والله أعلم.
وقال النيسابوري: الرسول الذي معه كتاب من الأنبياء، والنبيّ الذي ينبئ عن الله عزّ وجلّ وإن لم يكن معه كتاب، وكان المناسب ذكر الأعمّ قبل الأخص، إلا أن رعاية الفاصلة اقتضت عكس ذلك كقوله في طه: {ا رَبّ موسى وهارون} [طه: 70] انتهى. {وناديناه مِن جَانِبِ الطور الأيمن} أي كلمناه من جانب الطور، وهو جبل بين مصر ومدين اسمه زبير، ومعنى الأيمن: أنه كان ذلك الجانب عن يمين موسى، فإن الشجرة كانت في ذلك الجانب والنداء وقع منها، وليس المراد: يمين الجبل نفسه. فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال؛ وقيل: معنى الأيمن: الميمون، ومعنى النداء: أنه تمثل له الكلام من ذلك الجانب {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} أي أدنيناه بتقريب المنزلة حتى كلمناه، والنجيّ بمعنى المناجي كالجليس والنديم، فالتقريب هنا هو تقريب التشريف والإكرام، مثلت حاله بحال من قرّبه الملك لمناجاته. قال الزجاج: قربه منه في المنزلة حتى سمع مناجاته وقيل: إن الله سبحانه رفعه حتى سمع صريف القلم. روي هذا عن بعض السلف.
{وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا} أي من نعمتنا، وقيل: من أجل رحمتنا، و{هارون} عطف بيان، و{نَبِيّاً} حال منه، وذلك حين سأل ربه قال: {واجعل لّي وَزِيراً مّنْ أَهْلِى * هارون أَخِي} [طه: 29 30]. ووصف الله سبحانه إسماعيل بصدق الوعد مع كونه جميع الأنبياء كذلك، لأنه كان مشهوراً بذلك مبالغاً فيه، وناهيك بأنه وعد الصبر من نفسه على الذبح فوفى بذلك، وكان ينتظر لمن وعده بوعد الأيام والليالي، حتى قيل: إنه انتظر لبعض من وعده حولاً. والمراد بإسماعيل هنا: هو إسماعيل بن إبراهيم، ولم يخالف في ذلك إلا من لا يعتدّ به فقال: هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه، فخيره الله فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه ورضي بثوابه، وقد استدل بقوله تعالى في إسماعيل: {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم كانوا على شريعته. وقيل: إنه وصفه بالرسالة لكون إبراهيم أرسله إلى جرهم {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكواة} قيل: المراد بأهله هنا أمته.
وقيل: جرهم، وقيل: عشيرته كما في قوله: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] والمراد بالصلاة والزكاة هنا: هما العبادتان الشرعيتان ويجوز أن يراد معناهما اللغوي {وَكَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً} أي رضياً زاكياً صالحاً. قال الكسائي والفراء: من قال مرضيّ بنى على رضيت، قالا: وأهل الحجاز يقولون. مرضوّ. {واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ} اسم إدريس أخنوخ، قيل: هو جدّ نوح، فإن نوحاً هو ابن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ، وعلى هذا فيكون جد أبي نوح. ذكره الثعلبي وغيره، وقد قيل: إن هذا خطأ، وامتناع إدريس للعجمة والعلمية. وهو أوّل من خط بالقلم ونظر في النجوم والحساب، وأوّل من خاط الثياب. قيل: وهو أوّل من أعطي النبوّة من بني آدم.
وقد اختلف في معنى قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} فقيل: إن الله رفعه إلى السماء الرابعة. وقيل: إلى السادسة. وقيل: إلى الثانية.
وقد روى البخاري في صحيحه من حديث الإسراء وفيه: ومنهم إدريس في الثانية، وهو غلط من رواية شريك بن عبد الله بن أبي نمر. والصحيح أنه في السماء الرابعة كما رواه مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وقيل: إن المراد برفعه مكاناً علياً: ما أعطيه من شرف النبوّة. وقيل: إنه رفع إلى الجنة.
{أُولَئِكَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين} الإشارة إلى المذكورين من أوّل السورة إلى هنا، والموصول صفته، و{من النبيين} بيان للموصول، و{مِن ذُرّيَّةِ * ءادَمَ} بدل منه بإعادة الخافض. وقيل: إن {من} في {من ذرية} آدم للتبعيض {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} أي: من ذرية من حملنا معه وهم من عدا إدريس، فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح {وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم} وهم الباقون {وإسراءيل} أي ومن ذرية إسرائيل، ومنهم موسى وهارون ويحيى وعيسى. وقيل: إنه أراد بقوله: {مِن ذُرّيَّةِ ءادَمَ} إدريس وحده، وأراد بقوله: {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} إبراهيم وحده، وأراد بقوله: {وَمِن ذُرّيَّةِ إبراهيم} إسماعيل وإسحاق ويعقوب، وأراد بقوله: {وَمِن ذُرّيَّةِ إسراءيل} موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} أي: من جملة من هدينا إلى الإسلام {واجتبينا} بالإيمان {إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً} وهذا خبر لأولئك، ويجوز أن يكون الخبر هو {الذين أنعم الله عليهم} وهذا استئناف لبيان خشوعهم لله وخشيتهم منه.
وقد تقدّم في سبحان بيان معنى خرّوا سجداً: يقال: بكى يبكي بكاءً وبكياً. قال الخليل: إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن، أي ليس معه صوت، ومنه قول الشاعر:
بكت عيني وحقّ لها بكاها *** وما يغني البكاء ولا العويل
و {سجدا} منصوب على الحال. قال الزجاج: قد بيّن الله أن الأنبياء كانوا إذا سمعوا آيات الله بكوا وسجدوا، وقد استدلّ بهذه الآية على مشروعية سجود التلاوة.
ولما مدح هؤلاء الأنبياء بهذه الأوصاف ترغيباً لغيرهم في الاقتداء بهم وسلوك طريقتهم ذكر أضدادهم تنفيراً للناس عن طريقتهم فقال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي عقب سوء. قال أهل اللغة: يقال لعقب الخير: خلف بفتح اللام، ولعقب الشر خلف بسكون اللام، وقد قدّمنا الكلام على هذا في آخر الأعراف {أضاعوا الصلاة} قال الأكثر: معنى ذلك أنهم أخروها عن وقتها وقيل: أضاعوا الوقت وقيل: كفروا بها وجحدوا وجوبها وقيل: لم يأتوا بها على الوجه المشروع. والظاهر أن من أخر الصلاة عن وقتها أو ترك فرضاً من فروضها أو شرطاً من شروطها أو ركناً من أركانها فقد أضاعها، ويدخل تحت الإضاعة من تركها بالمرّة أو أحدها دخولاً أوّلياً.
واختلفوا فيمن نزلت هذه الآية؟ فقيل: في اليهود وقيل: في النصارى وقيل: في قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يأتون في آخر الزمان، ومعنى {واتبعوا الشهوات} أي فعلوا ما تشتهيه أنفسهم وترغب إليه من المحرمات كشرب الخمر والزنا {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} الغيّ: هو الشرّ عند أهل اللغة، كما أن الخير: هو الرشاد، والمعنى: أنهم سيلقون شرّاً لا خيراً. وقيل: الغيّ الضلال، وقيل: الخيبة. وقيل: هو اسم وادٍ في جهنم وقيل: في الكلام حذف، والتقدير: سيلقون جزاء الغيّ، كذا قال الزجاج، ومثله قوله سبحانه: {يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68]. أي جزاء أثام.
{إِلاَّ مَن تَابَ وَءامَنَ وَعَمِلَ صالحا} أي تاب مما فرط منه من تضييع الصلوات واتباع الشهوات فرجع إلى طاعة الله وآمن به وعمل عملاً صالحاً، وفي هذا الاستثناء دليل على أن الآية في الكفرة لا في المسلمين {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة} قرأ أبو جعفر وشيبة وابن كثير وابن محيصن وأبو عمرو ويعقوب وأبو بكر {يدخلون} بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ الباقون بفتح الياء وضم الخاء {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} أي لا ينقص من أجورهم شيء وإن كان قليلاً، فإن الله سبحانه يوفي إليهم أجورهم. وانتصاب {جنات عَدْنٍ} على البدل من الجنة، بدل البعض لكون جنات عدن بعض من الجنة. قال الزجاج: ويجوز {جنات عدن} بالرفع على الابتداء، وقرئ كذلك. قال أبو حاتم: ولولا الخط لكان جنة عدن، يعني: بالإفراد، مكان الجمع وليس هذا بشيء، فإن الجنة اسم لمجموع الجنات التي هي بمنزلة الأنواع للجنس. وقرئ بنصب الجنات على المدح، وقد قرئ جنة بالإفراد {التى وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ بالغيب} هذه الجملة صفة لجنات عدن، و{بالغيب} في محل نصب على الحال من الجنات، أو من عباده، أي متلبسة، أو متلبسين بالغيب، وقرئ: بصرف عدن، ومنعها على أنها علم لمعنى العدن وهو الإقامة، أو علم لأرض الجنة {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} أي: موعوده على العموم، فتدخل فيه الجنات دخولاً أوّلياً.
قال الفراء: لم يقل آتياً، لأن كل ما أتاك فقد أتيته، وكذا قال الزجاج.
{لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} هو الهذر من الكلام الذي يلغى ولا طائل تحته، وهو كناية عن عدم صدور اللغو منهم؛ وقيل: اللغو: كل ما لم يكن فيه ذكر الله {إِلاَّ سلاما} هو استثناء منقطع: أي سلام بعضهم على بعض، أو سلام الملائكة عليهم.
وقال الزجاج: السلام اسم جامع للخير، لأنه يتضمن السلامة، والمعنى: أن أهل الجنة لا يسمعون ما يؤلمهم وإنما يسمعون ما يسلمهم {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قال المفسرون: ليس في الجنة بكرة ولا عشية، ولكنهم يؤتون رزقهم على مقدار ما يعرفون من الغداء والعشاء {تِلْكَ الجنة التى نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} أي هذه الجنة التي وصفنا أحوالها نورثها من كان من أهل التقوى كما يبقى على الوارث مال موروثه. قرأ يعقوب {نورّث} بفتح الواو وتشديد الراء، وقرأ الباقون بالتخفيف. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: نورّث من كان تقياً من عبادنا.
وقد أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} قال: النبي الذي يكلم وينزل عليه ولا يرسل. ولفظ ابن أبي حاتم: الأنبياء الذين ليسوا برسل يوحى إلى أحدهم ولا يرسل إلى أحد. والرسل: الأنبياء الذين يوحى إليهم ويرسلون.
وأخرج عبد الرزاق وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {جَانِبِ الطور الأيمن} قال: جانب الجبل الأيمن {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} قال: نجا بصدقه.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية قال: قربه حتى سمع صريف القلم، وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين.
وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن ابن عباس في الآية قال: حتى سمع صريف القلم يكتب في اللوح.
وأخرجه الديلمي عنه مرفوعاً.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هارون} قال: كان هارون أكبر من موسى، ولكن إنما وهب له نبوّته.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال: كان إدريس خياطاً، وكان لا يغرز غرزة إلا قال: سبحان الله، وكان يمسي حين يمسي وليس على الأرض أفضل عملاً منه، فاستأذن ملك من الملائكة ربه فقال: يا ربّ ائذن لي فأهبط إلى إدريس، فأذن له فأتى إدريس فقال: إني جئتك لأخدمك، قال: كيف تخدمني وأنت ملك وأنا إنسان؟ ثم قال إدريس: هل بينك وبين ملك الموت شيء؟ قال الملك: ذاك أخي من الملائكة، قال: هل تستطيع أن تنفعني؟ قال: أما يؤخر شيئاً أو يقدّمه فلا، ولكن سأكلمه لك فيرفق بك عند الموت، فقال: اركب بين جناحيّ، فركب إدريس فصعد إلى السماء العليا فلقي ملك الموت وإدريس بين جناحيه، فقال له الملك: إن لي إليك حاجة، قال: علمت حاجتك تكلمني في إدريس وقد محي اسمه من الصحيفة فلم يبق من أجله إلا نصف طرفة عين، فمات إدريس بين جناحي الملك.
وأخرج ابن أبي شيبة في الصنف، وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: سألت كعباً فذكر نحوه، فهذا هو من الإسرائيليات التي يرويها كعب.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال: «رفع إدريس إلى السماء السادسة».
وأخرج الترمذي وصححه، وابن المنذر وابن مردويه قال: حدثنا أنس بن مالك عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لما عرج بي رأيت إدريس في السماء الرابعة».
وأخرج ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في الآية قال: رفع إدريس كما رفع عيسى ولم يمت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: إدريس هو إلياس. وحسنه السيوطي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله: {أُولَئِكَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} إلى آخره، قال: هذه تسمية الأنبياء الذين ذكرهم؛ أما من ذرية آدم: فإدريس ونوح؛ وأما من حمل مع نوح فإبراهيم، وأما ذرية إبراهيم: فإسماعيل، وإسحاق ويعقوب؛ وأما ذرية إسرائيل: فموسى، وهارون، وزكريا، ويحيى، وعيسى.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} قال: هم اليهود والنصارى.
وأخرج عبد بن حميد عن مجاهد في الآية قال: هم من هذه الأمة يتراكبون في الطرق كما تراكب الأنعام لا يستحيون من الناس، ولا يخافون من الله في السماء.
وأخرج عبد بن حميد عن ابن مسعود في قوله: {أضاعوا الصلاة} قال: ليس إضاعتها تركها قد يضيع الإنسان الشيء ولا يتركه، ولكن إضاعتها: إذا لم يصلها لوقتها.
وأخرج أحمد، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي سعيد الخدري: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتلا هذه الآية {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} الآية قال: «يكون خلف من بعد ستين سنة أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً}، ثم يكون خلف يقرؤون القرآن لا يعدو تراقيهم، ويقرأ القرآن ثلاثة: مؤمن، ومنافق، وفاجر».
وأخرج أحمد، والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سيهلك من أمتي أهل الكتاب وأهل اللبن، قلت: يا رسول الله ما أهل الكتاب؟ قال: «قوم يتعلمون الكتاب يجادلون به الذين آمنوا»، قلت: ما أهل اللبن؟ قال: «قوم يتبعون الشهوات ويضيعون الصلوات».
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، والحاكم وصححه عن عائشة، أنها كانت ترسل بالصدقة لأهل الصدقة وتقول: لا تعطوا منها بربرياً ولا بربرية، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «هم الخلف الذين قال الله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ}».
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} قال: خسراً.
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث من طرق عن ابن مسعود في قوله: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} قال: الغيّ نهر، أو وادٍ في جهنم من قيح بعيد القعر خبيث الطعم، يقذف فيه الذين يتبعون الشهوات.
وقد قال بأنه وادٍ في جهنم البراء بن عازب.
وروى ذلك عنه ابن المنذر والطبراني.
وأخرج ابن جرير والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو أن صخرة زنة عشر عشر أواق قذف بها من شفير جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفاً، ثم تنتهي إلى غيّ وأثام» قلت: وما غيّ وأثام؟ قال: «نهران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل النار، وهما اللذان ذكر الله في كتابه: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} {ومن يفعل ذلك يلق أثاماً} [الفرقان: 68]».
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «الغيّ وادٍ في جهنم».
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه في قوله: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} قال: باطلاً.
وأخرج سعيد ابن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أيضاً في قوله: {بُكْرَةً وَعَشِيّاً} قال: يؤتون به في الآخرة على مقدار ما كانوا يؤتون به في الدنيا.
وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول من طريق أبان عن الحسن وأبي قلابة قالا: قال رجل: يا رسول الله، هل في الجنة من ليل؟ قال: «وما هيجك على هذا»؟ قال: سمعت الله يذكر في الكتاب: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} فقلت: الليل من البكرة والعشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس هناك ليل، وإنما هو ضوء ونور، يرد الغدوّ على الرواح والرواح على الغدوّ، تأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التي كانوا يصلون فيها في الدنيا، وتسلم عليهم الملائكة».
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «ما من غداة من غدوات الجنة، وكل الجنة غدوات، إلى أنه يزف إلى وليّ الله فيها زوجة من الحور العين وأدناهنّ التي خلقت من الزعفران» قال بعد إخراجه: قال أبو محمد: هذا حديث منكر.


قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ} أي قال الله سبحانه: قل يا جبريل. وما نتنزل، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استبطأ نزول جبريل عليه، فأمر جبريل أن يخبره بأن الملائكة ما تتنزل عليه إلا بأمر الله. قيل: احتبس جبريل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً؛ وقيل: خمسة عشر وقيل: اثني عشر وقيل: ثلاثة أيام؛ وقيل: إن هذا حكاية عن أهل الجنة، وأنهم يقولون عند دخولها: وما نتنزل هذه الجنان {إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} والأوّل أولى بدلالة ما قبله، ومعناه يحتمل وجهين: الأوّل: وما نتنزّل عليك إلا بأمر ربك لنا بالتنزل. والثاني: وما نتنزّل عليك إلا بأمر ربك الذي يأمرك به بما شرعه لك ولأمتك، والتنزل: النزول على مهل، وقد يطلق على مطلق النزول. ثم أكد جبريل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك} أي من الجهات والأماكن، أو من الأزمنة الماضية والمستقبلة، وما بينهما من الزمان أو المكان الذي نحن فيه، فلا نقدر على أن ننتقل من جهة إلى جهة، أو من زمان إلى زمان إلا بأمر ربك ومشيئته، وقيل: المعنى: له ما سلف من أمر الدنيا وما يستقبل من أمر الآخرة وما بين ذلك، وهو ما بين النفختين وقيل: الأرض التي بين أيدينا إذا نزلنا، والسماء التي وراءنا وما بين السماء والأرض وقيل: ما مضى من أعمارنا وما غبر منها والحالة التي نحن فيها. وعلى هذه الأقوال كلها يكون المعنى: أن الله سبحانه هو المحيط بكل شيء لا يخفى عليه خافية، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرّة، فلا نقدم على أمر إلا بإذنه، وقال: {وما بين ذلك} ولم يقل وما بين ذينك، لأن المراد: وما بين ما ذكرنا كما في قوله سبحانه: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68]. {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي لم ينسك وإن تأخر عنك الوحي، وقيل: المعنى إنه عالم بجميع الأشياء لا ينسى منها شيئاً وقيل: المعنى: وما كان ربك ينسى الإرسال إليك عند الوقت الذي يرسل فيه رسله.
{رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي خالقهما وخالق ما بينهما، ومالكهما ومالك ما بينهما، ومن كان هكذا فالنسيان محال عليه. ثم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بعبادته والصبر عليها فقال: {فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ} والفاء للسببية لأن كونه ربّ العالمين سبب موجب لأن يعيد، وعدى فعل الصبر باللام دون على التي يتعدّى بها لتضمنه معنى الثبات {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} الاستفهام للإنكار. والمعنى: أنه ليس له مثل ولا نظير حتى يشاركه في العبادة، فيلزم من ذلك أن تكون غير خالصة له سبحانه، فلما انتفى المشارك استحق الله سبحانه أن يفرد بالعبادة وتخلص له، هذا مبنيّ على أن المراد بالسميّ: هو الشريك في المسمى وقيل: المراد به: الشريك في الاسم كما هو الظاهر من لغة العرب، فقيل: المعنى إنه لم يسمّ شيء من الأصنام ولا غيرها بالله قط، يعني: بعد دخول الألف واللام التي عوّضت عن الهمزة ولزمت.
وقيل: المراد: هل تعلم أحداً اسمه الرحمن غيره؟ قال الزجاج: تأويله والله أعلم: هل تعلم له سمياً يستحق أن يقال له: خالق وقادر وعالم بما كان وبما يكون، وعلى هذا لا سميّ لله في جميع أسمائه، لأن غيره وإن سمي بشيء من أسمائه، فللّه سبحانه حقيقة ذلك الوصف، والمراد بنفي العلم المستفاد من الإنكار هنا: نفي المعلوم على أبلغ وجه وأكمله.
{وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} قرأ الجمهور على الاستفهام، وقرأ ابن ذكوان: {إذا ما متّ} على الخبر، والمراد بالإنسان ها هنا: الكافر، لأن هذا الاستفهام هنا للإنكار والاستهزاء والتكذيب بالبعث وقيل: اللام في الإنسان للجنس بأسره وإن لم يقل هذه المقالة إلا البعض، وهم الكفرة فقد يسند إلى الجماعة ما قام بواحد منهم، والمراد بقوله: {أخرج} أي من القبر، والعامل في الظرف فعل دلّ عليه أخرج، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها. {أَوَ لاَ يَذْكُرُ إلإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} الهمزة للإنكار التوبيخي، والواو لعطف الجملة التي بعدها على الجملة التي قبلها، والمراد بالذكر هنا: إعمال الفكر، أي ألا يتفكر هذا الجاحد في أوّل خلقه فيستدلّ بالابتداء على الإعادة، والابتداء أعجب وأغرب من الإعادة، لأن النشأة الأولى هي إخراج لهذه المخلوقات من العدم إلى الوجود ابتداعاً واختراعاً، لم يتقدّم عليه ما يكون كالمثال له، وأما النشأة الآخرة فقد تقدّم عليها النشأة الأولى فكانت كالمثال لها، ومعنى {مِن قَبْلُ}: قبل الحالة التي هو عليها الآن، وجملة: {ولم يك شيئاً} في محل نصب على الحال، أي والحال أنه لم يكن حينئذٍ شيئاً من الأشياء أصلاً، فإعادته بعد أن كان شيئاً موجوداً أسهل وأيسر. قرأ أهل مكة وأبو عمرو وأبو جعفر وأهل الكوفة إلا عاصماً: {أو لا يذكر} بالتشديد، وأصله يتذكر. وقرأ شيبة ونافع وعاصم وابن عامر: {يذكر} بالتخفيف، وفي قرءاة أبيّ: {أو لا يتذكر}.
ثم لما جاء سبحانه وتعالى بهذه الحجة التي أجمع العقلاء على أنه لم يكن في حجج البعث حجة أقوى منها، أكدها بالقسم باسمه سبحانه مضافاً إلى رسوله تشريفاً له وتعظيماً، فقال: {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} ومعنى {لنحشرنهم}: لنسوقنهم إلى المحشر بعد إخراجهم من قبورهم أحياء كما كانوا، والواو في قوله: {والشياطين} للعطف على المنصوب، أو بمعنى مع.
والمعنى: أن هؤلاء الجاحدين يحشرهم الله مع شياطينهم الذين أغووهم وأضلوهم، وهذا ظاهر على جعل اللام في الإنسان للعهد، وهو الإنسان الكافر، وأما على جعلها للجنس فكونه قد وجد في الجنس من يحشر مع شيطانه {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} الجثي جمع جاث، من قولهم جثا على ركبتيه يجثو جثواً، وهو منتصب على الحال، أي جاثين على ركبهم لما يصيبهم من هول الموقف وروعة الحساب، أو لكون الجثي على الركب شأن أهل الموقف كما في قوله سبحانه: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28]. وقيل: المراد بقوله: {جثياً}: جماعات، وأصله، جمع جثوة، والجثوة هي: المجموع من التراب أو الحجارة. قال طرفة:
أرى جثوتين من تراب عليهما *** صفائح صم من صفيح منضد
{ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلّ شِيعَةٍ} الشيعة: الفرقة التي تبعت ديناً من الأديان، وخصص ذلك الزمخشري فقال: هي الطائفة التي شاعت أي تبعت غاوياً من الغواة قال الله تعالى: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا} [الأنعام: 159]. ومعنى {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} من كان أعصى لله وأعتى فإنه ينزع من كل طائفة من طوائف الغيّ والفساد أعصاهم وأعتاهم، فإذا اجتمعوا طرحهم في جهنم. والعتيّ ها هنا مصدر كالعتوّ، وهو التمرّد في العصيان. وقيل: المعنى لننزعن من أهل كلّ دين قادتهم ورؤساءهم في الشرّ.
وقد اتفق القراء على قراءة {أيهم} بالضم إلا هارون الغازي فإنه قرأها بالفتح. قال الزجاج: في رفع أيهم ثلاثة أقوال: الأوّل: قول الخليل بن أحمد إنه مرفوع على الحكاية، والمعنى: ثم لننزعن من كل شيعة الذين يقال لهم أيهم أشدّ. وأنشد الخليل في ذلك قول الشاعر:
وقد أبيت من الفتاة بمنزل *** فأبيت لا حرج ولا محروم
أي فأبيت بمنزلة الذي يقال له هو لا حرج ولا محروم. قال النحاس: ورأيت أبا إسحاق، يعني: الزجاج، يختار هذا القول ويستحسنه. القول الثاني: قول يونس: وهو أن {لننزعنّ} بمنزلة الأفعال التي تلغى وتعلق. فهذا الفعل عنده معلق عن العمل في أيّ، وخصص الخليل وسيبويه وغيرهما التعليق بأفعال الشك ونحوها مما لم يتحقق وقوعه. القول الثالث: قول سيبويه: إن أيهم ها هنا مبنيّ على الضم، لأنه خالف أخواته في الحذف، وقد غلط سيبويه في قوله هذا جمهور النحويين حتى قال الزجاج: ما تبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما، وللنحويين في إعراب {أيهم} هذه في هذا الموضع كلام طويل.
{ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} يقال: صلى يصلي صلياً مثل مضى الشيء يمضي مضياً، قال الجوهري: يقال صليت الرجل ناراً إذا أدخلته النار وجعلته يصلاها، فإن ألقيته إلقاءً كأنك تريد الإحراق قلت: أصليته بالألف وصليته تصلية ومنه: {ويصلى سَعِيراً} [الإنشقاق: 12] ومن خفف فهو من قولهم: صلي فلان النار بالكسر يصلى صلياً احترق، قال الله تعالى: {الذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} قال العجاج:
والله لولا النار أن تصلاها ***
ومعنى الآية: أن هؤلاء الذين هم أشدّ على الرحمن عتياً هم أولى بصليها، أو صليهم أولى بالنار.
{وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} الخطاب للناس من غير التفات، أو للإنسان المذكور، فيكون التفاتاً، أي ما منكم من أحد إلا واردها، أي واصلها.
وقد اختلف الناس في هذا الورود. فقيل: الورود: الدخول ويكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم. وقالت فرقة: الورود: هو المرور على الصراط وقيل: ليس الورود الدخول إنما هو كما يقول: وردت البصرة ولم أدخلها، وقد توقف كثير من العلماء عن تحقيق هذا الورود، وحمله على ظاهره لقوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]. قالوا: فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده عنها، ومما يدلّ على أن الورود لا يستلزم الدخول قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ} [القصص: 23] فإن المراد: أشرف عليه لا أنه دخل فيه، ومنه قول زهير:
فلما وردن الماء زرقاً حمامه *** وضعن عصي الحاضر المتخيم
ولا يخفى أن القول بأن الورود هو: المرور على الصرط، أو الورود على جهنم وهي خامدة فيه، جمع بين الأدلة من الكتاب والسنّة، فينبغي حمل هذه الآية على ذلك، لأنه قد حصل الجمع بحمل الورود على دخول النار مع كون الداخل من المؤمنين مبعداً من عذابهما، أو بحمله على المضيّ فوق الجسر المنصوب عليها، وهو الصراط {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} أي كان ورودهم المذكور أمراً محتوماً قد قضى سبحانه أنه لا بدّ من وقوعه لا محالة.
وقد استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن العقاب واجب على الله، وعند الأشاعرة أن هذا مشبه بالواجب من جهة استحالة تطرّق الخلف إليه.
{ثُمَّ نُنَجّي الذين اتقوا} أي: اتقوا ما يوجب النار، وهو الكفر بالله ومعاصيه، وترك ما شرعه، وأوجب العمل به. قرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة {ننجي} بالتخفيف من أنجى، وبها قرأ حميد ويعقوب والكسائي، وقرأ الباقون بالتشديد، وقرأ ابن أبي ليلى: {ثُمَّ نذر} بفتح الثاء من ثم، والمراد بالظالمين: الذين ظلموا أنفسهم بفعل ما يوجب النار، أو ظلموا غيرهم بمظلمة في النفس أو المال أو العرض، والجثيّ جمع جاثٍ وقد تقدّم قريباً تفسير الجثيّ وإعرابه.
وقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟» فنزلت: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ} إلى آخر الآية.
وزاد ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، وكان ذلك الجواب لمحمد.
وأخرج ابن مردويه من حديث أنس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أيّ البقاع أحبّ إلى الله، وأيها أبغض إلى الله؟ قال: «ما أدري حتى أسأل»، فنزل جبريل، وكان قد أبطأ عليه، فقال: «لقد أبطأت عليّ حتى ظننت أن بربي عليّ موجدة»، فقال: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ}.
وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: أبطأ جبريل على النبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً ثم نزل، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما نزلت حتى اشتقت إليك»، فقال له جبريل: أنا كنت إليك أشوق، ولكني مأمور، فأوحى الله إلى جبريل أن قل له: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ}. وهو مرسل.
وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد قال: أبطأت الرسل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتاه جبريل فقال له: «ما حبسك عني؟» قال: وكيف نأتيكم وأنتم لا تقصون أظفاركم، ولا تنقون براجمكم، ولا تأخذون شواربكم، ولا تستاكون؟ وقرأ: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبّكَ}. وهو مرسل أيضاً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} قال: من أمر الآخرة {وَمَا خَلْفَنَا} قال: من أمر الدنيا {وَمَا بَيْنَ ذلك} قال: ما بين الدنيا والآخرة.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة {وَمَا بَيْنَ ذلك} قال: ما بين النفختين.
وأخرج ابن المنذر عن أبي العالية مثله.
وأخرج البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني والبيهقي، والحاكم وصححه عن أبي الدرداء رفع الحديث قال: «ما أحلّ الله في كتابه فهو حلال، وما حرّم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً، ثم تلا: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}».
وأخرج ابن مردويه من حديث جابر مثله.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن ابن عباس في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قال: هل تعرف للربّ شبهاً أو مثلاً؟ وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، والبيهقي في الشعب عنه: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً}؟ قال: ليس أحد يسمى الرحمن غيره.
وأخرج ابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: يا محمد هل تعلم لإلهك من ولد؟ وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {وَيَقُولُ الإنسان} قال: العاص بن وائل، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {جِثِيّاً} قال: قعوداً، وفي قوله: {عِتِيّاً} قال: معصية.
وأخرج ابن جرير عنه في قوله: {عِتِيّاً} قال: عصياً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ} قال: لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤوسهم في الشرّ.
وأخرج ابن أبي حاتم، والبيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: نحشر الأوّل على الآخر حتى إذا تكاملت العدة أثارهم جميعاً، ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً، ثم قرأ: {فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ} إلى قوله: {عِتِيّاً}.
وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} قال: يقول: إنهم أولى بالخلود في جهنم.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والحكيم الترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه والبيهقي عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود، فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن، وقال بعضنا: يدخلونها جميعاً {ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا} فلقيت جابر بن عبد الله فذكرت له، فقال وأهوى بأصبعه إلى أذنيه صُمَّتاً: إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يبقى برٌّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم حتى إن للنار ضجيجاً من بردها. {ثُمَّ نُنَجّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً}».
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي عن مجاهد قال: خاصم نافع بن الأزرق ابن عباس، فقال ابن عباس: الورود: الدخول، وقال نافع: لا، فقرأ ابن عباس: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98]. وقال: وردوا أم لا؟ وقرأ: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] أوردوا أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل نخرج منها أم لا؟ وأخرج الحاكم عن ابن مسعود في قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال: وإن منكم إلا داخلها.
وأخرج هناد والطبراني عنه في الآية قال: ورودها الصراط.
وأخرج أحمد وعبد بن حميد والترمذي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي وابن الأنباري وابن مردويه عن ابن مسعود في قوله: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليرد الناس كلهم النار، ثم يصدرون عنها بأعمالهم، فأوّلهم كلمح البرق، ثم كالريح، ثم كحضر الفرس، ثم كالراكب في رحله، ثم كشدّ الرحل، ثم كمشيه» وقد روي نحو هذا من حديث ابن مسعود من طرق.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}» يقول: «مجتاز فيها».
وأخرج مسلم وغيره عن أم مبشر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية» قالت حفصة: أليس الله يقول: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قالت: ألم تسمعيه يقول: {ثُمَّ نُنَجّي الذين اتقوا}.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد فيلج النار إلا تحلة القسم»، ثم قرأ سفيان {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}.
وأخرج أحمد والبخاري في تاريخه، وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوّعاً لا يأخذه سلطان: لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم، فإن الله يقول: {وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا}» والأحاديث في تفسير هذه الآية كثيرة جدّاً.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {حَتْماً مَّقْضِيّاً} قال: قضاء من الله.
وأخرج الخطيب في تالي التلخيص عن عكرمة حتماً مقضياً قال: قسماً واجباً.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً} قال: باقين فيها.


الضمير في {عَلَيْهِمْ} راجع إلى الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله: {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} أي: هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعذروا بالدنيا، وقالوا: لو كنتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أطيب من حالنا، ولم يكن بالعكس، لأن الحكيم لا يليق به أن يهين أولياءه ويعزّ أعداءه، ومعنى البينات: الواضحات التي لا تلتبس معانيها. وقيل: ظاهرات الإعجاز. وقيل: إنها حجج وبراهين، والأوّل أولى. وهي حال مؤكدة لأن آيات الله لا تكون إلا واضحة، ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله: {قَالَ الذين كَفَرُواْ} للإشعار بأن كفرهم هو السبب لصدور هذا القول عنهم. وقيل: المراد بالذين كفروا هنا: هم المتمردّون المصرّون منهم، ومعنى قالوا {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} قالوا: لأجلهم. وقيل: هذه اللام هي لام التبليغ كما في قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ} [البقرة: 247] أي خاطبوهم بذلك وبلغوا القول إليهم {أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً} المراد بالفريقين: المؤمنون والكافرون، كأنهم قالوا: أفريقنا خير أم فريقكم؟ قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد {مقاماً} بضم الميم، وهو موضع الإقامة، ويجوز أن يكون مصدراً بمعنى الإقامة، وقرأ الباقون بالفتح أي منزلاً ومسكناً. وقيل: المقام: الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة، والمعنى: أي الفريقين أكبر جاهاً وأكثر أنصاراً وأعواناً، والنديّ والنادي: مجلس القوم ومجتمعهم، ومنه قوله تعالى: {وَتَأْتُونَ فِى نَادِيكُمُ المنكر} [العنكبوت: 29]. وناداه جالسه في النادي، ومنه دار الندوة، لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم، ومنه أيضاً قول الشاعر:
أنادي به آل الوليد جعفرا ***
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مّن قَرْنٍ} القرن: الأمة والجماعة {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً ورئيا} الأثاث: المال أجمع، الإبل والغنم والبقر والعبيد والمتاع. وقيل: هو متاع البيت خاصة. وقيل: هو الجديد من الفرش. وقيل: اللباس خاصة. واختلفت القراءات في: {ورئياً} فقرأ أهل المدينة وابن ذكوان {ورياً} بياء مشدّدة، وفي ذلك وجهان: أحدهما: أن يكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء والمعنى على هذه القراءة: هم أحسن منظراً وبه قول جمهور المفسرين، وحسن المنظر يكون من جهة حسن اللباس، أو حسن الأبدان وتنعمها، أو مجموع الأمرين. وقرأ أهل الكوفة وأبو عمرو وابن كثير: {ورئياً} بالهمز، وحكاها ورش عن نافع، وهشام عن ابن عامر، ومعناها معنى القراءة الأولى. قال الجوهري: من همز جعله من المنظر من رأيت، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة، وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي:
أشاقتك الظعائن يوم بانوا *** بذي الرئي الجميل من الأثاث
ومن لم يهمز: إما أن يكون من تخفيف الهمزة، أو يكون من رويت ألوانهم أو جلودهم رياً، أي امتلأت وحسنت.
وقد ذكر الزجاج معنى هذا كما حكاه عنه الواحدي.
وحكى يعقوب أن طلحة بن مصرف قرأ بياء واحدة خفيفة، فقيل: إن هذه القراءة غلط، ووجهها بعض النحويين أنه كان أصلها الهمزة فقلبت ياء ثم حذفت إحدى الياءين، وروي عن ابن عباس أنه قرأ بالزاي مكان الراء، وروي مثل ذلك عن أبيّ بن كعب وسعيد بن جبير والأعصم المكي واليزيدي. والزيّ: الهيئة والحسن. قيل: ويجوز أن يكون من زويت أي: جمعت، فيكون أصلها زوياً فقلبت الواو ياء، والزيّ محاسن مجموعة.
{قُلْ مَن كَانَ فِى الضلالة} أمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب على هؤلاء المفتخرين بحظوظهم الدنيوية، أي من كان مستقرّاً في الضلالة {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} هذا وإن كان على صيغة الأمر، فالمراد به الخبر، وإنما خرج مخرج الأمر لبيان الإمهال منه سبحانه للعصاة، وأن ذلك كائن لا محالة لتنقطع معاذير أهل الضلال، ويقال لهم يوم القيامة: {أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} [فاطر: 37]. أو للاستدراج كقوله سبحانه: {إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً} [آل عمران: 178] وقيل: المراد بالآية الدعاء بالمد والتنفيس. قال الزجاج: تأويله أن الله جعل جزاء ضلالته أن يتركه ويمدّه فيها، لأن لفظ الأمر يؤكد معنى الخبر كأن المتكلم يقول: أفعل ذلك وآمر به نفسي {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ} يعني: الذين مدّ لهم في الضلالة، وجاء بضمير الجماعة اعتباراً بمعنى من، كما أن قوله: {كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ} اعتبار بلفظها، وهذه غاية للمدّ، لا لقول المفتخرين إذ ليس فيه امتداد {إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة} هذا تفصيل لقوله: {ما يوعدون} أي هذا الذي توعدون هو أحد أمرين: إما العذاب في الدنيا بالقتل والأسر، وإما يوم القيامة وما يحلّ بهم حينئذٍ من العذاب الأخروي {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً} هذا جواب الشرط، وهو جواب على المفتخرين، أيّ هؤلاء القائلون: {أيّ الفريقين خير مقاماً} إذا عاينوا ما يوعدون به من العذاب الدنيوي بأيدي المؤمنين، أو الأخروي، فسيعلمون عند ذلك من هو شرّ مكاناً من الفريقين، وأضعف جنداً منهما، أي أنصاراً وأعواناً. والمعنى: أنهم سيعلمون عند ذلك أنهم شرّ مكاناً لا خير مكاناً، وأضعف جنداً لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين؛ وليس المراد أن للمفتخرين هنالك جنداً ضعفاء، بل لا جند لهم أصلاً كما في قوله سبحانه: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} [الكهف: 43].
ثم لما أخبر سبحانه عن حال أهل الضلالة، أراد أن يبين حال أهل الهداية فقال: {وَيَزِيدُ الله الذين اهتدوا هُدًى} وذلك أن بعض الهدى يجرّ إلى البعض الآخر، والخير يدعو إلى الخير وقيل: المراد بالزيادة: العبادة من المؤمنين، والواو في {ويزيد} للاستئناف، والجملة مستأنفة لبيان حال المهتدين وقيل: الواو للعطف على {فليمدد} وقيل: للعطف على جملة {من كان في الضلالة}.
قال الزجاج: المعنى أن الله يجعل جزاء المؤمنين أن يزيدهم يقيناً كما جعل جزاء الكافرين أن يمدّهم في ضلالتهم {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا} هي الطاعات المؤدية إلى السعادة الأبدية، ومعنى كونها خيراً عند الله ثواباً: أنها أنفع عائدة مما يتمتع به الكفار من النعم الدنيوية {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} المردّ ها هنا مصدر كالردّ، والمعنى: وخير مردّاً للثواب على فاعلها ليست كأعمال الكفار التي خسروا فيها، والمردّ: المرجع والعاقبة والتفضل للتهكم بهم للقطع بأن أعمال الكفار لا خير فيها أصلاً.
ثم أردف سبحانه مقالة أولئك المفتخرين بأخرى مثلها على سبيل التعجب فقال: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بئاياتنا} أي أخبرني بقصة هذا الكافر واذكر حديثه عقب حديث أولئك، وإنما استعملوا أرأيت بمعنى أخبر، لأن رؤية الشيء من أسباب صحة الخبر عنه، والآيات تعمّ كل آية ومن جملتها آية البعث، والفاء للعطف على مقدّر يدل عليه المقام، أي أنظرت فرأيت، واللام في {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} هي الموطئة للقسم، كأنه قال: والله لأوتينّ في الآخرة مالاً وولداً، أي أنظر إلى حال هذا الكافر وتعجب من كلامه وتأليه على الله مع كفره به وتكذيبه بآياته.
ثم أجاب سبحانه عن قول هذا الكافر بما يدفعه ويبطله، فقال: {أَطَّلَعَ} على {الغيب} أي أعلم ما غاب عنه حتى يعلم أنه في الجنة {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} بذلك، فإنه لا يتوصل إلى العلم إلا بإحدى هاتين الطريقتين وقيل: المعنى: أنظر في اللوح المحفوظ؟ أم اتخذ عند الرحمن عهداً؛ وقيل: معنى {أم اتخذ عند الرحمن عهداً} أم قال: لا إله إلا الله فأرحمه بها. وقيل: المعنى أم قدّم عملاً صالحاً فهو يرجوه. واطلع مأخوذ من قولهم: اطلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه. وقرأ حمزة والكسائي ويحيى بن وثاب والأعمش: {وولداً} بضم الواو، والباقون بفتحها، فقيل: هما لغتان معناهما واحد، يقال: ولد وولد كما يقال: عدم وعُدم، قال الحارث بن حلزّة:
ولقد رأيت معاشرا *** قد ثمروا مالاً وولداً
وقال آخر:
فليت فلاناً كان في بطن أمه *** وليت فلاناً كان ولد حمار
وقيل: الولد بالضم للجمع وبالفتح للواحد.
وقد ذهب الجمهور إلى أن هذا الكافر أراد بقوله: {لأوتينّ مالاً وولداً} أنه يؤتى ذلك في الدنيا.
وقال جماعة: في الجنة، وقيل: المعنى: إن أقمت على دين آبائي لأوتين. وقيل: المعنى: لو كنت على باطل لما أوتيت مالاً وولداً.
{كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ}: {كلا} حرف ردع وزجر، أي ليس الأمر على ما قال هذا الكافر من أنه يؤتى المال والولد، سيكتب ما يقول أي سنحفظ عليه ما يقوله فنجاز به في الآخرة، أو سنظهر ما يقول، أو سننتقم منه انتقام من كتبت معصيته {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} أي نزيده عذاباً فوق عذابه مكان ما يدّعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد، أو نطوّل له من العذاب ما يستحقه وهو عذاب من جمع بين الكفر والاستهزاء.
{وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} أي نميته فنرثه المال والولد الذي يقول إنه يؤتاه. والمعنى: مسمى ما يقول ومصداقه. وقيل: المعنى نحرمه ما تمناه ونعطيه غيره. {وَيَأْتِينَا فَرْداً} أي يوم القيامة لا مال له ولا ولد، بل نسلبه ذلك، فكيف يطمع في أن نؤتيه. وقيل: المراد بما يقول: نفس القول لا مسماه، والمعنى: إنما يقول هذا القول ما دام حياً، فإذا أمتناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضاً له منفرداً عنه، والأوّل أولى.
وقد أخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {أَىُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً} قال: قريش تقوله لها ولأصحاب محمد.
وأخرج الفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {خَيْرٌ مَّقَاماً} قال: المنازل {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} قال: المجالس، وفي قوله: {أَحْسَنُ أَثَاثاً} قال: المتاع والمال {ورئياً} قال: المنظر.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً}: فليدعه الله في طغيانه.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن حبيب بن أبي ثابت قال في حرف أبيّ: {قل من كان في الضلالة فإنه يزيده الله ضلالة}.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما في قوله: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ} من حديث خباب بن الأرت قال: كنت رجلاً قيناً وكان لي على العاص بن وائل دين، فأتيته أتقاضاه فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث، قال: فإني إذا متّ ثم بعثت جئتني ولي ثم مال وولد فأعطيك، فأنزل الله فيه هذه الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} قال: لا إله إلا الله يرجو بها.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ} قال: ماله وولده.

1 | 2 | 3 | 4